الخميس 9 شوال 1445 الموافق أبريل 18, 2024
 

المسؤولية الاجتماعية للوحدات الاقتصادية (3)

الخميس, 12 يناير, 2017

في مقالتي الثانية تحت نفس هذا العنوان، والمنشورة في جريدة القبس، العدد رقم 15630، الصادر يوم الاثنين 2016/12/5، بينت وجهة نظري لقبول شركات الأعمال طواعية لمسؤوليتها الاجتماعية إلى جانب مسؤوليها الاقتصادية التقليدية. وقد بينت الأسس التي بنيت عليها وجهة نظري والتي تتلخص في الآتي:
أولاً: الربح في الأجل الطويل في مصلحة الشركة للبقاء والاستمرار في النشاط الاقتصادي في إطار من المسؤولية الاجتماعية.
ثانياً: التغير الذي طرأ على العقد الاجتماعي كنتيجة للتغير في الزمان.
ثالثاً: الأساس الأخلاقي الذي يقضي بأن تحقيق الربح في الأجل القصير لمصلحة المساهمين يجب ألا يكون على حساب أصحاب المصالح الأخرى في الشركة مثل العمال، والمستهلكين، والبيئة المحلية، والمجتمع بصفة عامة.
رابعاً: تجنب إصدار التشريعات والقوانين التي تجبر الشركات على تحمل مسؤوليتها الاجتماعية، وتجنب التدخل الحكومي لحماية مصالح المجتمع الذي تتعارض مصالحه في هذا الزمان مع مصالح الوحدات الاقتصادية.
خامساً: تجنب الضغوط الاجتماعية التي تمارس على الشركات الآن من جانب العمال، وجمعيات حماية المستهلك، وجمعيات المحافظة على البيئة نظيفة وخالية من التلوث، وغيرها من جماعات الضغط الاجتماعي، ووسائل الإعلام المختلفة التي أصبح لها دور هام في هذا المجال.
وأضيف إلى كل ذلك أساساً آخر أكثر أهمية في هذا المقال الثالث، ويتلخص في معادلة السلطة والمسؤولية. فالمسؤولية الاجتماعية للشركة تنبع أساساً من سلطة الشركة، التي تتمثل في قوة تأثيرها على المجتمع من خلال قوة تأثيرها على قطاعات كبيرة في المجتمع من عمال، ومستهلكين، ومساهمين، ومقرضين وموردين، وعلى البيئة المحلية، والمجتمع بصفة عامة. لذلك يجب أن تتعادل السلطة الاجتماعية للشركة مع مسؤوليتها الاجتماعية.
فالسلطة يمكن أن تكون عرضة لإساءة استعمالها إن لم يعادلها مسؤولية اجتماعية بنفس القدر. فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة. كما أن المسؤولية المطلقة لشركات الأعمال لن تمكنها من تأدية دورها الاقتصادي الهام في المجتمع في توفير فرص العمل، وتحسين بيئة وظروف العمل، وتوفير السلع والخدمات ذات الجودة العالية للمستهلكين، بأسعار مناسبة، وتحسين البيئة المحلية، وحل مشكلات المجتمع، ما يؤدي إلى زيادة رفاهية المجتمع. لذلك، يجب أن تقوم شركات الأعمال بتأدية دورها الاقتصادي الهام، في إطار من المسؤولية الاجتماعية لمصلحة المجتمع. وهذه القاعدة «السلطة تعادل المسؤولية» تجد لها اساسا علميا في الإدارة العلمية الحديثة. فكل مدير أو موظف في الشركة يكون مسؤولا عن تصرفاته بنفس القدر من مسؤولياته المحددة له في الشركة. ومن هنا نشأ مبدأ تفويض السلطة وعدم تفويض المسؤولية، حتى يمكن مساءلة المدير عن تصرفاته وتصرفات تابعيه، لعدم ضياع المسؤولية نتيجة تفويض السلطة من أعلى إلى أسفل من دون المتابعة، والمراقبة، والتوجيه وتنمية الكفاءات الإدارية.
وعلى الرغم من أن هذه القاعدة العلمية الإدارية تشير إلى العلاقات في داخل الشركة، فانها تطبق أيضا على العلاقات الخارجية بين الشركة والمجتمع والقطاعات العريضة في المجتمع التي تمارس الشركة عليها سلطة اجتماعية من خلال قوة التأثير فيها اجتماعيا. فأينما توجد السلطة توجد أيضا المسؤولية التي يجب أن تساويها في المقدار. والشركة التي تتجاهل مسؤوليتها الاجتماعية تصبح مهددة بأن تفقد سلطاتها وقوتها في التأثير في المجتمع في الأجل الطويل. وتتأكد هذه التهديدات من كثرة القوانين والتشريعات التي تجبر شركات الأعمال الاقتصادية على تحمل مسؤوليتها الاجتماعية لمصلحة جميع القطاعات الذين يتأثرون اجتماعيا بأنشطة الشركة، في مجالات العمل، وحماية المستهلك، وحماية البيئة، وحماية المجتمع بصفة عامة من اساءة استعمال الشركة لسلطتها وقوة تأثيرها في المجتمع. كما تتأكد هذه التهديدات أيضا بتزايد وقوة تأثير جماعات الضغط الاجتماعي من اتحادات عمالية، وجمعيات حماية المستهلك، وجمعيات المحافظة على البيئة، ووسائل الإعلام المكتوبة، والمسموعة والمرئية، والتي باتت من أهم وسائل الرقابة الاجتماعية والضغط الاجتماعي لتحمل الشركات لمسؤوليتها الاجتماعية في الوقت الحالي في المجتمعات الحديثة.
وحتى في عصر ما بعد الثورة الصناعية، في القرون الثلاثة الماضية، فقد ظهرت الكتابات الحديثة التي تنادي بأخلاقيات السوق الحرة، وضرورة ضبط الأسواق، وبناء النظام الرأسمالي الحر على أسس أخلاقية. فقد كتب الفيلسوف وعالم الأخلاق والمنطق، الاسكتلندي الأصل، آدم سميث كتابه الأول عن الأخلاق Moral Sentiments التي تحكم تصرفات وسلوكيات الأفراد من منتجين ومستهلكين في الأسواق، وهي اهتماماته الأصلية قبل ان يركز جهوده بعد ذلك على الاقتصاد، والتي توجت بصدور كتابه الثاني «ثروة الأمم» The Wealth of Nation، الذي صدر في لندن عام 1776، وأسس به لعلم الاقتصاد الحديث، وطور به النظام الرأسمالي التقليدي، واعتبر بذلك ابا الاقتصاديين المحدثين، والذي أسسه على الأخلاق ومراعاة البعد الاجتماعي في اقتصادات السوق الحر. وكان ينظر إلى الربح على انه ليس دافعا أنانيا Self-Love ولكن يجب أن يعمل المنتج ما يرغب في شراؤه الآخرون، ولا يعمل لنفسه فقط. وكان ينظر إلى الآخرين كشركاء وليس كخصوم أو أعداء. وكان يرى أن المنافسة الكاملة، والتي سماها «اليد الخفية» The Invisible Hand، هي التي تضبط الأسواق. وتكلم أيضا عن ضرورة وضع نظام ضريبي عادل لتحقيق العدل الاجتماعي. ولكنه انتقد تدخل الحكومة لضبط الأسواق، وقال ان الأسواق تضبط نفسها من خلال اليد الخفية (المنافسة الكاملة ومنع الاحتكارات) والتي تؤدي إلى التشغيل الكامل، وإعطاء العمال حقوقهم، والارتقاء بجودة المنتجات، وتقديمها بأسعار مناسبة لمصلحة المستهلكين، وزيادة رفاهية المجتمع عموماً. فقد كان ادم سميث استاذاً وباحثاً في الاخلاق والمنطق واراد ارساء دعائم الاقتصاد الرأسمالي على الاخلاقيات وتحقيق اهداف جميع القطاعات في المجتمع من ارباح عادلة للمنتجين واصحاب الشركات (الصغيرة في ذلك الوقت)، وفي نفس الوقت تحقيق مصالح الاخرين من عمال، ومستهلكين، والمجتمع بصفة عامة. ولكن الزمان الان قد اختلف عن ذلك الزمان، (حوالي مئتين وخمسين سنة على صدور كتاب ثروة الامم)، فقد كان ينظر في ذلك الوقت الى الدخان المتصاعد من المصانع على انه بشير خير وبركة للمجتمع، ولكنه الان منظر كريه يدل على التلوث، وزيادة حرارة كوكب الارض، واضرار على الصحة العامة في المجتمع. اي انه انبعاث اضرار اجتماعية محلية وعالمية وليس دليل خير ابدا. كما ان سلوكيات الناس في الوقت الراهن قد اختلفت عنها في زمان آدم سميث، وقل الشعور بمشكلات الاخرين والمجتمع، بل ان اخلاقيات الناس قد اختلفت. لذلك تتدخل الحكومات الان لتصحيح هذه الاوضاع الاجتماعية غير المسؤولة اجتماعياً. ولا يجب ان يترك الامر ليد خفية تضبط حركة الاقتصاد الذي اصبح مختلا الان.
لذلك نرى ان المسؤولية الاجتماعية لشركات الاعمال هي الضابط والكفيل لحل المشكلات الاجتماعية الناشئة عن الاقتصاد الحر وحرية العمل بالاسواق. فالحرية لابد وان تكون في اطار من المسؤولية. وهنا يحضرني المثل الشائع «أنت حر ما لم تضر»، والمثل الاخر الذي يقول «حرية الانسان تقف عند حدود حرية الاخرين». لذلك نرى ان الحرية الاقتصادية تساوي المسؤولية الاجتماعية لكل من الشركات والافراد.

د. سعود حمد الحميدي
كلية العلوم الإدارية – جامعة الكويت
http://www.gulfeyes.net/business/1096976.html

مقال
لمشاهدة ملفات الدراسات، نأمل تسجيل الدخول, أو تسجيل عضوية جديدة
بواسطة:
باحث ومهتم بالمسؤولية الاجتماعية
عضو منذ: 21/08/2016
عدد المشاركات: 160