الجمعة 10 شوال 1445 الموافق أبريل 19, 2024
 

حوكمة الشركات .. حل مشكلتنا في التحول للقطاع الخاص

الأحد, 16 أكتوبر, 2016

د. محمد آل عباس

تتطلب "رؤية المملكة 2030" تحولا استراتيجيا نحو القطاع الخاص، ولعل أهم مشاريعنا الاقتصادية الاستراتيجية في السنوات القادمة هو خصخصة عديد من الخدمات التي تقدمها الحكومة. لدينا تجارب كثيرة في مجال الخصخصة، ولسنا حديثي تجربة في هذا المجال، ومع ذلك فإن التحولات الاستراتيجية نحو القطاع الخاص حتى يتمكن من قيادة الاقتصاد الوطني تتطلب منا تصرفات حكيمة وراشدة الآن، فالحكومة السعودية كانت وما زالت تضمن العدالة الاجتماعية، وتدعم الطبقة المتوسطة وتحارب الفقر. كل ذلك أنجزته الحكومة السعودية منذ نشأتها وعملت عليه وفق نموذج اقتصادي متميز يخلط ببراعة بين أنماط اشتراكية وأنماط رأسمالية مع أفكار زاهية لدولة الرفاهية، لكن التحول نحو اقتصاد القطاع الخاص سيؤثر في العمل على هذا النحو، وسيكون على المجتمع تقبل تحديات الإنتاج وقاعدة البقاء للأصلح التي ينتهجها اقتصاد السوق. فالإنتاج يتطلب تضافر عوامله بطريقة مبتكرة في المزج فليس بالضرورة أن يعمل جميع العمال المؤهلين لإيجاد إنتاج قوي في ظل توسع استخدام الآلة، فالتطورات الهائلة في عالم ابتكار وإنتاج الروبوتات الرخيصة سوف يؤجج المنافسة بين العمال وينمي المهارات وسيقود حتما في آخر المطاف إلى تطبيق فج ومؤلم لنظرية البقاء للأصلح. لهذا فإن التغيرات الهيكلية في الاقتصاد التي ستتبعها تغيرات هيكلية اجتماعية تتطلب ضمان توافر أدوات حرة لدى القطاع الخاص تمكنه من حسن إدارة الموارد بما يخدم الاقتصاد وليس خدمة أطراف مختارة منه. وبمعنى أكثر دقة فإن النجاح في خطة التحول يعتمد أساسا على نجاحنا في ضمان تحول القطاع الخاص نفسه نحو حرية السوق والمنافسة العادلة وليس انتهاج بناء مؤسسات احتكارية برجوازية تؤسسها وتتوارثها العائلات التي استطاعت الخروج بثروات هائلة من حقبة الاقتصاد الحكومي التي نحاول تخطيها الآن، إن الضمانة الوحيدة التي يمكننا انتهاجها اليوم هي بناء أنظمة وقوانين ملزمة للممارسات الإدارية الجيدة من خلال قواعد الحوكمة الأفضل.

لقد استطاعت عديد من الشركات العائلية الوصول إلى رقم هائل في الثروة، ولعل اكتتاب البنك الأهلي الذي وصلت قيمته إلى سقف قياسي وتاريخي يصعب على أي اكتتاب آخر أن يصله وهو أكثر من 300 مليار ريال (إلا إذا تم إدراج شركة أرامكو) وهي مبالغ تم ضخها في أقل من أربعة أيام من مؤسسات عائلية. هذه الثروة الضخمة جدا، هي التي ستكون مرتكز تحولنا الاقتصادي نحو القطاع الخاص وخصخصة مؤسسات الدولة، فهذه المؤسسات العائلية ستكون القوة الشرائية الأساسية في الاكتتابات، والتداول في سوق المال، وستتمكن هذه المؤسسات العائلية بفعل هذه الثروة من السيطرة على كثير من الشركات وبالتالي كثير من الخدمات، وسيتعين على الباقين البحث عن فرص عمل في هذه الشركات وقبول شروط التوظيف الجديدة. بالتأكيد فإن التركز الجديد للثروات في أيدي أفراد أو مؤسسات، سيفرض على من هو خارج دائرة الثروة القبول بالشروط الجديدة للعمل، ولا مشاحة في ذلك طالما أن الشروط الجديدة هدفها هو تجويد الإنتاج وإيجاد أسواق جديدة والمنافسة العالمية، فكثافة الإنتاج هذه مع القدرة على المنافسة ستضمن تشغيل جميع العمال في الاقتصاد، لكن المشكلة إذا لم تكن تلك هي الأهداف، بل تعزيز الثروات والاحتكارات التي خلفتها حقبة العمل الحكومي، إذا كانت هذه هي الحال -كما أتصورها- فإننا أمام مشكلة كبيرة يجب معالجتها.

ديمقراطية الشركات هي الحل السحري الذي جلبته قواعد الحوكمة للعالم، ورغم أن مسألة الحوكمة قديمة إلا أن تجربتها الحقيقية بدأت بعدما حلت كوارث الشركات العالمية الكبرى مثل إنرون في أوائل القرن الحالي، فالتفرد بالقرار لمجلس الإدارة وحده وتسلط رئيس مجلس الإدارة على القرارات الاستراتيجية والتنفيذية معا، مع إغراق الأسواق بمعلومات مضللة للتلاعب بسعر الأسهم، وعدم فتح مساحة واسعة للمشاركة والمراقبة المجتمعية، هو الذي أوصل العالم إلى الكوارث التي حلت به في العقد الماضي. لقد أثبتت أطر الحوكمة أن لديها القدرة على ضبط العمل، والتوزيع العادل للسلطات داخل الشركات الذي يضمن توزيعا صحيحا وعادلا لدخل الشركة، وبالتضامن مع مستويات عالية من المسؤولية الاجتماعية فإن النتيجة بالتالي تعني سلامة اجتماعية عامة إذا تمت هذه الممارسات الجيدة على مستوى جميع الشركات والمؤسسات في الاقتصاد. لقد جلبت قواعد الحوكمة الحل السحري، وسيكون لها الكلمة الأعلى واليد الطولى في العقود المقبلة، طالما هي تضمن توزيعا صحيحا للقرار في الشركات بين الجميع، ولا تستأثر به فئة دون أخرى لمجرد أنها تملك أسهما أهم وأكثر من الآخرين. سيكون على الشركات خدمة الاقتصاد وليس تنمية الثروات وفي نهاية المطاف سوف تحقق الشركات ما سعت إليه الحكومة من تعزيز الطبقة المتوسطة وتوفير حياة كريمة للجميع ولكن الفرق أن ذلك يعتمد على إنتاجية حقيقية لجميع أفراد المجتمع وليس نتيجة كفالة اجتماعية كما كانت تنظر لها نظرية دولة الرفاهية.

إذا كنا نريد تحولا آمنا نحو اقتصاد السوق والقطاع الخاص فلابد لنا من فرض مستويات عالية من الحوكمة والشفافية والتوزيع العادل للسلطة والدخل في الشركات، كما نعزز من المسؤولية الاجتماعية للشركات بمفهوم إسلامي حديث ونبدأ من الآن بفرض مستويات عالية من الشفافية والتقارير والإفصاح وتطوير أنظمة الرقابة الداخلية وإجبار الشركات والمؤسسات الحكومية التي تنوي التحول للقطاع الخاص على تطبيق معايير COSO للرقابة الداخلية، أو ما يعادلها، وذلك كله قبل أن نبدأ مشاريع الخصخصة ونقل الخدمات.
.

المصدر: جريدة الاقتصادية.

مقال
لمشاهدة ملفات الدراسات، نأمل تسجيل الدخول, أو تسجيل عضوية جديدة
بواسطة:
الشبكة السعودية للمسؤولية الاجتماعية
إدارة الشبكة