
دور القضاء الرقمي في تحقيق العدالة العقدية
مقدمة:
لقد أصبحت المسؤولية الاجتماعية للقاضي موضوعا مهما يستحق الدراسة والنقاش، فالقاضي ليس معزولا عن مجتمعه وإنما هو جزء لا يتجزأ منه، وليس مجرد شخص يمارس مهنة قانونية، بل هو رمز للعدالة وضمانة لتحقيق الحق والإنصاف في المجتمع، وفي ظل التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تشهدها الدول الحديثة يجب أن يكون على دراية بالتحديات الاجتماعية التي تواجه هذا المجتمع. وتجدر الإشارة إلى أننا في هذا المقال لن نتحدث عن كل ما يمكن أن يقدمه القاضي في المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة العدلية الممثلة في الممارسات الموجهة للمجتمع أو فئات معينة، وإنما نكتفي بالحديث عن التزامه الاجتماعي في إطار وظيفته فحسب والمتمثلة في استخدام سلطته التقديرية (الممنوحة له بموجب القانون) فيما يخدم مبادئ المسؤولية الاجتماعية من شفافية والامثتال القانوني وكذا العدالة بكل صورها الاجتماعية والاقتصادية... ومن بين المسائل التي يستخدم فيها القاضي سلطته التقديرية هي إعادة التوازن العقدي.
وفي هذا الإطار ومع التطور المتسارع في التكنولوجيا الرقمية، أصبحت المعاملات الإلكترونية جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، فظهر شكل حديث من أشكال العقود التقليدية التي تعتمد على الوسائل الرقمية بدلا من الأوراق والتوقيعات اليدوية وهو العقد الإلكتروني والذي يعد اتفاق بين طرفين أو أكثر يتم إبرامه باستخدام وسائل تقنية رقمية مثل البريد الإلكتروني، المنصات الإلكترونية، أو التطبيقات الذكية. بالموازاة ظهرت الرقمية في المنظومة القضائية أين يتم الاستعانة بها ليس فقط في مجال المحاكمة والمرافعات وإنما كذلك لدراسة الملفات والعقود من طرف القاضي. من هنا نتساءل عن الآليات التي تساعد في تحقيق التوازن العقدي بالخصوص في العقود الالكترونية.
1) مفهوم العدالة العقدية:
تعد العدالة العقدية مفهوما قانونيا وأخلاقيا يركز على تحقيق الإنصاف بين الأطراف المتعاقدة عند إبرام العقود أو تنفيذها. تهدف العدالة العقدية إلى ضمان أن يكون العقد متوازنا بين الطرفين، وألا يكون هناك استغلال لأحد الأطراف أو انتهاك لحقوقه بسبب عدم المساواة في القوة التفاوضية أو المعلومات. وتقوم العدالة العقدية على مجموعة من الأسس:
حرية التعاقد: هي مبدأ أساسي في القانون المدني، حيث يتمتع الأفراد بحرية اختيار شروط العقد ومحتواه، ومع ذلك فإن هذا المبدأ ليس مطلقًا، ويجب أن يخضع لضوابط لتحقيق العدالة.
الشفافية: يجب أن تكون جميع الشروط والأحكام واضحة ومفهومة للأطراف المتعاقدة، ولا يجوز إخفاء أي بنود هامة داخل نصوص طويلة أو معقدة.
المساواة في القوة التفاوضية: إذا كانت هناك فجوة كبيرة في القوة التفاوضية بين الأطراف (مثل عقد بين شركة كبيرة ومستهلك فردي)، فيجب أن يتم وضع آليات لحماية الطرف الضعيف في العقد.
المسؤولية العادلة: يجب أن تكون المسؤوليات المترتبة على العقد متناسبة مع القدرات والظروف الخاصة بكل طرف.
2) حدود سلطة القاضي في تعديل العقود:
على الرغم من أن القاضي لديه سلطة تعديل العقود لتحقيق العدالة، إلا أن هذه السلطة ليست مطلقة. يجب أن تكون ممارسة هذه السلطة ضمن حدود معينة:
احترام حرية التعاقد: لا يمكن للقاضي تعديل العقد بشكل تعسفي أو بدون سبب قانوني، فحرية التعاقد مبدأ أساسي في القانون المدني، ويجب أن يتم احترامه ما لم يكن هناك انتهاك واضح للعدالة.
الاعتماد على القوانين والأنظمة: يجب أن يعتمد القاضي على القوانين ذات الصلة مثل قوانين حماية المستهلك، قوانين العقود وقوانين التجارة الإلكترونية.
ضرورة الإثبات: يجب على الطرف الذي يطلب تعديل العقد إثبات وجود سبب قانوني يستدعي هذا التعديل.
تصحيح الشروط غير العادلة: يمكن للقضاء أن يتدخل لإلغاء أو تعديل البنود التي تعتبر غير عادلة أو متحيزة.
إعادة التوازن عند الغبن الفاحش: إذا كان هناك اختلال كبير في المنفعة بين الأطراف، يمكن للقاضي إعادة التوازن بين حقوقهم وواجباتهم.
3) آليات تدخل القاضي لتعديل العقود الالكترونية:
تتدخل السلطة القضائية في تعديل العقد الإلكتروني بناء على المبادئ العامة للقانون المدني ومبادئ العدالة، إلا أنه يأخذ وجهان: إما يكون العقد الكترونيا والتدخل تقليدي (على سبيل المثال شركة تقدم خدمة اشتراك رقمي رفعت الأسعار بشكل مفاجئ بعد إبرام العقد، فالقاضي هنا يتدخل لإعادة الأسعار إلى المستوى المعقول)، أو يكون العقد الكترونيا والتدخل القضائي أيضا رقمي (على سبيل المثال يستعين القاضي بتقنيات الذكاء الاصطناعي لمعرفة مواطن القوة والضعف في العقد الالكتروني):
تحليل البنود: يمكن للذكاء الاصطناعي فحص العقود بسرعة وتحديد الشروط التي قد تكون غير عادلة أو غير متوازنة بين الأطراف. مثال: إذا كان هناك شرط يُلزم طرفا واحدا بتحمل جميع المسؤوليات دون مقابل مناسب، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تحديد هذا الشرط وتوصية بإعادة صياغته.
التحقق من الامتثال القانوني: يمكن للذكاء الاصطناعي التحقق مما إذا كانت العقود تتوافق مع القوانين المحلية والدولية ذات الصلة، كقوانين حماية المستهلك أو القوانين المتعلقة بالتجارة الإلكترونية. مثال: إذا كان العقد يتضمن شروطا تنتهك قوانين حماية البيانات، يمكن للذكاء الاصطناعي تحديد هذه المخالفات بسهولة.
التعرف على الغبن الفاحش: تستطيع تقنيات التعلم الآلي تحليل بيانات السوق ومعرفة ما إذا كان هناك غبن فاحش في العقد، مثل فرق كبير وغير معقول بين قيمة المنتج أو الخدمة والمبلغ المتفق عليه. مثال: إذا كان سعر المنتج أقل بكثير من قيمته السوقية الحقيقية، يمكن للنظام إصدار تنبيه بشأن وجود غبن محتمل.
استخدام أدوات المحاكاة المالية: إذا كان العقد يتعلق بمشروع استثماري أو تجاري، يمكن استخدام أدوات المحاكاة المالية لحساب العوائد المتوقعة لكل طرف، وإذا كانت الفجوة بين العوائد كبيرة جدا فقد يكون هناك غبن.
اكتشاف اللغة المعقدة: بعض العقود تحتوي على لغة قانونية معقدة أو مبهمة لخداع الطرف الآخر، من تم يمكن للذكاء الاصطناعي تحديد هذه اللغة وإعلام المستخدم بها.
اقتراح تعديلات تلقائية: بناء على قواعد ومبادئ قانونية مبرمجة مسبقا، يمكن للذكاء الاصطناعي اقتراح تعديلات على العقود لتكون أكثر عدلا وتوازنا، وبهذا يربح القاضي الوقت للقيام بدوره في عملية التوازن. مثال: إذا كان العقد يحتوي على شروط غير واضحة أو متحيزة، يمكن للنظام اقتراح صيغ بديلة تحقق التوازن بين الأطراف أو الاستعانة بعقود أخرى مشابهة لتحديد الأنماط الشائعة.
خاتمة:
في الأخير، نستنتج أن تقنيات الذكاء الاصطناعي لا تهدف بشكل مباشر إلى تحقيق مبادئ المسؤولية الاجتماعية ولكن لما لها من أساليب شفافة وموضوعية وقدرتها على خلق التوازن ولو بشكل تقني يمكن أن تساعد القاضي بالإضافة إلى نزاهته وتعميل ضميره وإنسانيته وامتثاله للقانون أن يحقق التوازن العقدي بشكل عادل.
بقلم: د. بورزيق خيرة