الثلاثاء 7 شوال 1445 الموافق أبريل 16, 2024
 

بين الدولرة وميزان المدفوعات: هكذا يتحدد سعر صرف الليرة!

الخميس, 23 أبريل, 2020

بين الدولرة وميزان المدفوعات:

هكذا يتحدد سعر صرف الليرة!

https://www.aljoumhouria.com/ar/news/527951/%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9...

د. سهام رزق الله (أستاذة محاضرة في جامعة القديس يوسف – كلية العلوم الاقتصادية)

سعر صرف الليرة تجاه العملات الأجنبية، وتحديدا في موضع البحث تجاه الدولار الأميركي، ليس فقط نتيجة تدافع أحداث وعدم استقرار وتأثّر بالتوقعات السلبية وعمليات المضاربة على أهميتها، إنما نتيجة المسار الاقتصادي الأساسي موعلمية حسابية متّصلة من جهة بخيار السياسة النقدية ونظام القطع في البلاد ومن جهة أخرى بوضع ميزان المدفوعات وبالتالي موجودات النظام المصرفي واحتياطي المركزي بالعملات الأجنبية. ذلك انطلاقا من اختيار البنك المركزي التدخّل المستمر لتثبيت سعر الصرف منذ عام 1997 خاصة في ظل وضع دولرة في البلاد والحاجة الى استقرار العملة الوطنية تجاه الدولار المستخدم بالتوازي معها في السوق المحلي. فكيف دخلت "الدولرة" الى لبنان وأثّرت في خيار سايسة القطع وكيف تخرج "الدولرة" وبأي تداعيات على سعر الصرف بفعل تدهور وضع ميزان المدفوعات واحتياطي العملات الأجنبية؟

*******************

من أبرز مفارقات الحياة الاقتصادية اللبنانية أن نفس الأسباب التي أدخلت الدولرة الى لبنان تدفع بها اليوم خارجا!! هي نفسها ازدواجية الدين العام وتدهور وضع المالية العامة وتراجع ميزان المدفوعات والطلب الزائد على الدولار الأميركي التي أدت في الثمانينات الى الهروب من تآكل القدرة الشرائية لليرة اللبنانية واختيار الدولار، وتقبلها حينها الجهاز المصرفي اللبناني.. هي نفسها اليوم تتسبّب بموجة معاكسة يحاول من خلالها النظام المصرفي بفرض استخدام الليرة لا بل "لبننة" الدولار المودع لديها ! المصرف المركزي والمصارف اللبنانية تقبّلت في الثمانيات خيار القطاع الخاص اللبناني باعتماد الدولرة (خاصة للودائع) كخيار حر ولو غير معلن رسميا الى جانب العملة الوطنية. وإقتصاديا كان من الطبيعي في ظل اعتماد الدولار بالتوازي مع الليرة اللبنانية أن يختار مصرف لبنان سياسة ربط سعر الصرف بغية المحافظة على استقرار سعر صرف العملة الوطنية ازاء العملة الأجنبية المستخدمة بالتوازي معها في السوق.. حتى أنه تم إنشاء غرفة مقاصة للشيكات بالدولار واعتاد اللبنانيون على مشهد مستغرب في أسواق العالم وهو اسخدام العملة الورقية للدولار في السوق الى جانب العملة الورقية اللبنانية وحتى تعبئة الصرافات الآلية بالعملتين الورقيّتين فيما طبعا مصرف لبنان لا يتحكّم إلا بطباعة الليرة اللبنانية...

من هنا إن المحافظة على هذا الاستقرار لا يمكن أن يبقى مجرّد قرار إنما يحتاج أساسا مؤشرات وإمكانية تطبيق لاسيما باستقطاب الدولار من الخارج وتحقيق فائض بميزان المدفوعات (لطالما اعتمد على فائض ميزان رساميل يعوّض عن عجز الميزان التجاري حيث تقليديا الاستيراد يتخطى التصدير).

وبعد أكثر من 22 سنة على هذا الستاتيكو وبعد أن تخطت دولرة الودائع 76% وتمددت الدولرة الى كامل النظام المصرفي لتشكل حصة الأسد من التسليفات وأكثر من ثلث الدين العام، ومع تدهور وضع المالية العامة وتدهور ميزان المدفوعات والموجودات الخارجية للجهاز المصرفي وبالتالي ضعف احتياطي المصرف المركزي بالدولار، تقلّصت إمكانية استمرار اتدخل مصرف لبنان لبيع الدولار مقابل الطلب المتزايد عليه في السوق... وقد انقلبت موازين الوضع مع تزايد معاناة لبنان منذ عام 2011 من عجز في ميزان المدفوعات..ما عدا العام 2016 الذي حاولت فيه "الهندسات المالية" تعزيز استقطاب الدولار وزيادة احتياطي المصرف المركزي وطلب زيادة رساميل المصارف التي تزايد انكشافها بالدولار ان تجاه الدولة عبر الاكتتاب باليوروبوند أو تجاه المصرف المركزي عبر شراء شهادات الايداع منه بالدولار. فبلغ هذا العجز في نهاية عام 2019 حوالي 4351 مليون دولار أمريكي ، بينما بلغ العجز المتراكم منذ 2011 14515.9 مليون دولار أمريكي (باستثناء عام 2016 ، حيث أصبح الرصيد فائضاً بشكل استثنائي بسبب " الهندسة المالية لمصرف لبنان.)

أدى انخفاض جاذبية العملة وعجز ميزان المدفوعات إلى زيادة الضغط على سوق الصرف الأجنبي الذي اعتمد منذ عام 1997 على العلاقة بين سعر صرف الليرة اللبنانية والدولار الأمريكي. على أساس 1507.5 جنيهًا إسترلينيًا للدولار.

وقد اعتمدت المصارف اللبنانية على استثماراتها مع المصارف المراسلة في الخارج (القطاع المالي غير المقيم) لشراء أوراق نقدية لتسديد ديونها في الخارج وإجراء تحويلات لعملائها ، خاصة بعد قيود مصرف لبنان على استخدام احتياطيات العملات الأجنبية المتاحة.

وتظهر الميزانيات العمومية الموحدة للبنوك اللبنانية أنه في عام 2019 ، خسرت المصارف اللبنانية 43.56٪ من قيمة حساباتها في القطاع المالي غير المقيم (أي المصارف المراسلة) ، لتستقر قيمة هذه الحسابات على مستوى 6.77 مليار دولار.

يمثل السطر الأول الأدنى الميزان التجاري الخارجي ، والسطر الثاني هو الرصيد الحالي ، والخط الثالث هو ميزان المدفوعات ، والخط الرابع هو الصادرات ، والخط الخامس الذي يعني أن أعلى يمثل الواردات.

ومع ذلك ، فإن انفجار الأزمة ومحدودية احتياطيات النقد الأجنبي وأولويات استخدامها بين تسوية الديون المشكوك في تحصيلها بالدولار الأمريكي قبل اتخاذ قرار بإعادة هيكلة الدين العام وتمويل استيراد القمح الخام ، تغطية مصرف لبنان الأدوية والمستلزمات الطبية والمشتقات البترولية ، في ظل تزايد الطلب على الدولار في السوق ، إلى تجميد إمكانية التبادل في القطاع المصرفي الذي حافظ على السعر الرسمي 1507.5 دون إمكانية التحويل في السوق إلى الخارج حتى تضاعف الطلب على الدولار عند الصرافين وفلت السوق من إمكانية السيطرة عليه.

مع العلم أن سعر الدولار الموازي ظهر في سوق الصرافة أعلى من السعر الرسمي ، بحيث انهار الهدف الرئيسي للبنك المركزي لحماية القوة الشرائية والاستقرار النقدي من التقلبات في أسعار الصرف وموجات التضخم ، وخاصة "التضخم المستورد" الناتج عن ارتفاع أسعار المنتجات المستوردة ، والتي تمثل حوالي 80٪ من إجمالي الاستهلاك المحلي.

ويلاحظ أنه منذ عام 1993 فصاعدًا ، بدأت فجوة النمو بين ودائع العملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي في الاتساع تدريجيًا (انظر الرسم البياني).

المصدر Kasparian R [2020], “La crise des liquidités actuelle est aussi celle de la dollarisation de l’économie », • https://www.lorientlejour.com/article/1205698/la-crise-des-liquidites-ac...

بمجرد أن الدولار الأمريكي لا يستخدم فقط للدفع مقابل الواردات ، فإن مبلغ ودائع العملات الأجنبية لم يعد يساوي تمامًا كمية الموجودات بالعملة الأجنبية. هناك عاملان آخران يلعبان دوراً في توسيع الفجوة بين الودائع والأصول الأجنبية: التحويل المستمر من الليرة اللبنانية إلى الدولار أمريكي ومنح المصارف تسليفات بالدولار من شأنها أن تزيد خلق النقد فضلا عن استخدام الدولار كأداة للدفع والتسوية للمعاملات المحلية.

ومع ذلك ، طالما كان ميزان المدفوعات في مسار تصاعدي ، ظلت فجوة النمو بين ودائع العملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي مضبوطة: وبالتالي انخفضت نسبة الودائع إلى الأصول الخارجية من 1.7 عام 1997 إلى 2.0 في نهاية 2011. منذ ذلك الحين ، مع بداية تداعيات الأزمة السورية على الاقتصاد اللبناني ومجمل التغيرات في المشهد اللبناني واهتزاز الاستقرار، وظهور عجز في ميزان المدفوعات وزيادة غير طبيعية في ودائع العملات الأجنبية ، التي ارتفعت هذه النسبة بشكل كبير لتصل إلى 3.5 في نهاية عام 2016 ؛ 4.2 نهاية عام 2017 ؛ 5.3 في نهاية 2018 ؛ وأخيرًا 7.3 في نهاية عام 2019. مع هذا المستوى من الاختلاف وفي سياق الأزمة ، يبدو بوضوح أن الموجودات الخارجية للمصارف لم تعد كافية لتلبية طلبات العملاء لسحب الودائع. خاصة وأن مصرف لبنان لا يستطيع طباعة الدولار لتزويد المصارف بها والاستجابة لطلبات السوق.

على خط مواز، تتجاوز خسائر مصرف لبنان 40 مليار دولار ، وهو جزء كبير من إجمالي الموجودات المبلغ عنها لمصرف لبنان ومبلغ كبير جدًا (أكثر من 100 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي) بالمقارنة مع سائر بلدات العالم.

وتنتج هذه الخسائر المتراكمة عن سنوات من المعاملات المالية الخاسرة التي يديرها مصرف لبنان (تهدف إلى تراكم احتياطيات النقد الأجنبي للدفاع عن تثبيت سعر الصرف وسد فجوة التمويل في رصيد مصادر الخسائر الأخرى) وتسارع التراكم في سياق "الهندسة المالية" التي بدأت في عام 2016. تم تنفيذ هذه المعاملات بهدف تجديد احتياطيات النقد الأجنبي من خلال جذب العملات الأجنبية من المصارف أو عبرها من مراسليهم في الخارج وفض توظيفات كانت لديها في الخارج وتحويلها الى لبنان للاكتتاب باليوروبوند أو شراء شهادات الايداع بالدولار من المصرف المركزي حتى تخطت 52.5 مليار دولار، تضاف الى 18 مليار دولار احتياطي الزامي على الودائع بالدولار ليصل المجموع الى أكثر من 70 مليار دولار للمصارف لدى المصرف المركزي.

وقد أظهرت خطة اعادة الهيكلة أنه يمكن أن يصل التقييم الكامل للخسائر (المباشرة وغير المباشرة) التي تكبدتها المصارف اللبنانية في محافظ أصولها إلى ما مجموعه 62.4 مليار دولار أمريكي وفقًا لتقديرات أولية تغطي الأصول بالدولار الأمريكي والليرة اللبنانية. فجاء الطرح أولاً شطب رأس المال بقيمة 20.8 مليار دولار، ثانيًا ب تغطية رصيد الخسائر (أي 62.4 مليار دولار أمريكي) من خلال مساهمة انتقالية استثنائية من كبار المودعين كتعويم أو مساهمة في رساميل المصارف. بما يطازل في الصيغة الأولى 10% من المودعين (الذين لديهم أكثر من 100 الف دولار او ما يوازيها، ثم بالصيغة الجديدة حصرها ب 2% من المودعين أي من لديهم أكثر من 500 الف دولار أو ما يوازيها). ثالثاً معالجة الخسائر الإضافية المحتملة الناتجة عن تخفيض قيمة العملة ومخاطر "عدم تطابق العملة". مما سيؤدي التخفيض التدريجي لسعر الصرف الرسمية المنصوص عليه في خطة إعادة الهيكلة إلى تحسين الشفافية والسيولة في سوق الصرف الأجنبي ، مع الأخذ في الاعتبار بشكل خاص حالة ميزان المدفوعات واحتياطيات العملات الأجنبية التي لم تعد تسمح للحفاظ على المستوىالحالي لسعر الصرف المعتمد منذ عام 1997.

المصدر: خطة اعادة الهيكلة

وقد أشارت الدراسات الحالية، اعتمادًا على المنهجية المستخدمة في الخطة، إلى المبالغة السابقة في تقدير الليرة اللبنانية بنسبة 30٪ إلى 60٪. تم حساب التقدير الأخير وفق الضرورة لسد فجوة ميزان المدفوعات. وبالنظر إلى توقع أن تساهم إعادة هيكلة الدين الخارجي في حوالي نصف عجز التمويل الخارجي ، فالتقديرات أن يكون التعديل الأولي لحوالي 30٪ في سعر الصرف ليسمح بإعادة التنظيم السلس لسعر الفائدة. على أن يؤدي فرق التضخم إلى انخفاض سعر الصرف الرسمي بنسبة 50٪ إلى 60٪ بحلول عام 2024.

وتعبّر خطة إعادة الهيكلة عن نية الحكومة في الانتقال تدريجياً إلى نظام سعر صرف أكثر مرونة خاصة أن الانتقال إلى سعر صرف عائم بالكامل غير مرغوب فيه حتى ينتقل الاقتصاد تمامًا إلى توازن جديد مستقر. على أن يعتمد مصرف لبنان سياسة سعر الصرف تضمن أن سعر الصرف القابل للتعديل سيعكس فارق التضخم مع العملات الرئيسية.

ومع توقّع وصول متوسط ​​التضخم إلى 25٪ في عام 2020 بسبب الآثار السلبية للانخفاض الحاد في سعر الصرف الموازي، يبقى الرهان للمستقبل أن يقوم مصرف لبنان بتخيف الى إلغاء التمويل النقدي للمالية العامة ولو على شكل اكتتاب بسندات الخزينة..وبمجرد استقرار الاقتصاد ، يفترض وضع إطار جديد للسياسة النقدية من قبل مصرف لبنان للتركيز وسياسة خروج تدريجي من السياسات النقدية غير التقليدية والعودة الى الأدوات التقليدية واعادة ترميم استقلالية المصرف المركزي وحماية الجهاز المصرفي من الترابط الزائد مع السايسة المالية التي صبّت مباشرة انعكاساتها على ثقة الناس بمصرف لبنان والمصارف اللبنانية ككل.

________________________

مقال
لمشاهدة ملفات الدراسات، نأمل تسجيل الدخول, أو تسجيل عضوية جديدة
بواسطة:
باحثة وأستاذة محاضرة في جامعة القديس يوسف في لبنان
عضو منذ: 24/09/2016
عدد المشاركات: 71