الجمعة 19 رمضان 1445 الموافق مارس 29, 2024
 

المسؤولية الاجتماعية من منظور إسلامي

الاثنين, 5 ديسمبر, 2016

يمكن تلخيص مفهوم المسؤولية الاجتماعية برد المعروف للمجتمع (Giving Back To Society)، و يعتبر العطاء أو تقديم الخير للمجتمع (أفراد و جماعات) الوسيلة الأكثر فاعلية في تحقيق التلاحم و الترابط بين مكونات المجتمع، و أفضل وسيلة اتصال بين أفراد المجتمع من أجل تحقيق التماسك المطلوب للنهوض بالمجتمع و تحقيق التطور؛ و ينطوي الوصول إلى السلوك الملتزم على الامتثال للقوانين، و الالتزام بالمعايير الأخلاقية ضمن منظومة هرمية، و يأتي السلوك الملتزم كقيمة سامية تفترض أن على الأفراد و الجماعات الالتزام تجاه الآخرين عند القيام بآداء الأنشطة و التحرك ضمن المجتمع.

تركز الأخلاق على عمل الأشياء الصحيحة (The Right Things To Do)، و لا ينصب التركيز هنا على الالتزام بالقوانين و الأنظمة من أجل تحقيق صلاح المجتمع، فالقوانين (العدل) تضمن الركائز الأساسية لبناء مجتمع على نهج صحيح؛ لكن التركيز على المبادئ الأخلاقية يعتبر مهم من أجل تطوير المجتمع؛ و غالبًا ما ينص على الأخلاق في القوانين و عدم الالتزام بها يفضي إلى نتائج سلبية. و لبناء المجتمع لا بد من الأخلاق، لذلك فهي مطلوبة من كافة أطياف المجتمع ، و تعطي نتائج إيجابية كبيرة لكل من يتبع السلوك الأخلاقي كونها تركز على عمل الأشياء الصحيحة بطريقة صحيحة و هذا هو مبدأ الكفاءة (Doing Things Right) الذي يؤدي إلى تحقيق الأهداف.

يتلخص المنظور الإسلامي للمسؤولية الاجتماعية في هرم أيضًا، المبدأ الرئيس فيه إقامة العدل في الأرض، و يتوسط الهرم الإحسان، و المكون الثالث فيه إيتاء ذي القربى؛ و قد ورد في الآية القرآنية الكريمة:” إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون” (سورة النحل/90)، و تعتبر الآية الكريمة من جوامع الكلم التي اختصت ببناء المجتمع على ركائز قوية، و لم تترك خيرًا إلا و دعت إليه و لا شرًا إلا و نهت عنه، و قد جاء الإسلام ليكون عدلًا بين كل الديانات التي سبقته.

إن اتباع ما جاء في هذه الآية من أوامر و نواهي هو ما يقود المجتمعات إلى الحق و السلام و التخلص من كل المشكلات الاجتماعية و الوصول إلى الصلاح، و قد جاء (العدل) الذي يكفل لكل فرد و لكل جماعة و لكل أمة قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوى و لا تتأثر بالود و البغض، و لا تتبدل تحيزًا لأي سبب كان؛ إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع، حيث أن المجتمع الذي تضيع فيه العدالة تتبخر فيه عوامل النمو بسبب غياب الكفالة الاجتماعية، فتكثر المشاكل الاجتماعية من عقوق و تمرد، و لأن العدل هو ما قامت عليه السموات و الأرض فالمجتمع مطالب بإقامة العدل لكي يحظى كل فرد بالحرية التي تقود إلى الإبداع، و يحصل من خلاله على جزاء عمله و فائدة تعبه، و لأن إقامة العدل تضمن سير الأمور في المسار الصحيح.

يعتبر العدل من المفاهيم الإدارية العظيمة، لأنه يضمن وجود قانون لسير العمل، و أساليب تقييم مبينة على أساس معايير عادلة تضمن أن يأخذ كل ذي حق حقه، و غياب العدل في حياة الأفراد و المجتمعات يؤدي إلى ضعف القيم و تدهور الأخلاق و ظهور الخلاف و الفساد و قسوة القلوب و الظلم بجميع صوره، فالمجتمعات لا يصلحها استخدام القوة و العنف بل يصلحها العدل و الحق، و العدل المطلق هو ما جاء به الإسلام و الذي لا يوازيه عدل بشر.

و تعتبر العدالة الاجتماعية من أهم مرتكزات العدل التي لا يمكن أن يتحقق بدونها، فالمجتمع الذي ينعم بالعدالة و بخاصة الاجتماعية هو مجتمع يتمتع بحرية في التعبير و الاختيار، و مساواة في الحقوق و الواجبات، و توزيع الثروة؛ و حري بالحكومات أن توجه اهتمامها إلى تقليص الفجوة بين الطبقات الاجتماعية و محاربة الفقر و الأمية و البطالة بالتالي ستقل حاجتها إلى مكافحة الإرهاب و الجريمة المنظمة و الفساد و غيرها من الأمور التي ظهرت بسبب غياب العدل.

و قد تحقق العدل الاجتماعي في عهد الإسلام الأول لعدة أمور أساسية، منها: تحقيق العدالة المالية بين أفراد المجتمع كل حسب موقعة و خبراته من غير إقصاء و لا محسوبية، و الاهتمام بالفئات المحرومة و هذا هو جوهر الإحسان: و يتمثل في دعم هذه الفئات و مساندتها ماديًا ليتوازن المجتمع، و احترام حقوق الإنسان، و الحق في الحياة، و الحق في الحرية المسؤولة، و الحق في الملكية… الخ. و إذا أردنا أن نبرز مثالًا يحتذى لثمرات العدل، نجد أن عهد عمر بن الخطاب و عهد عمر بن عبدالعزيز، و الذي طُبق في هذين العهدين العمريين، قد أنشأ مجتمعًا عادلًا تميز بأمرين مهمين: التوزيع العادل للثروة على كافة أفراد المجتمع كيلًا و وزنًا، و سياسة التكافل الاقتصادي و التي تمثلت بالعطاء.

المبدأ الثاني في هرم المسؤولية الاجتماعية هو الإحسان، و يشير الإحسان إلى تجاوز المطلوب من الفرد إلى ما هو أكثر من الالتزام بالقوانين أو المعايير الموضوعية، و هو ما يحقق الكفاءة و الفاعلية في الاستغلال الأمثل لمقدرات الأمم، و يرتبط الإحسان بإتقان العمل، و يعتبر خلقًا رفيعًا أوجبه الله على عباده، و يشمل تقديم الخير للغير، و فعل و قول الأشياء الحسنة و الصحيحة، و إتقان العمل مهما كان بسيطًا؛ و في علم الإدارة نسمع كثيرًا مصطلحي الفاعلية و الكفاءة، حيث يشير مفهوم الفاعلية إلى عمل الأشياء الصحيحة، بينما تشير الكفاءة إلى عمل الأشياء الصحيحة بالطريقة الصحيحة، و ضمن هذا المفهوم للإحسان نجد أن له علاقة قوية بالاقتصاد و بأصوله، و بأدوات الإنتاج و التوزيع، فالإحسان إلى الغير بالصدقة داخل في التوزيع الفاعل للثروة و حماية المجتمع من الحاجة، و عمل و قول الأشياء الصحيحة يدخل ضمن القيم الأخلاقية العظيمة الشاملة لجميع الأخلاق الفاضلة القولية و الفعلية، و أما الإتقان فهو يتعلق تعلقًا مباشرًا بأهم عنصر من عناصر الإنتاج و العمل و الإدارة و في الأمور المتعلقة بالإنتاج و أدواته، و بالاستهلاك، و بالتداول، و بالتوزيع، و بإعادة التوزيع. و لا يمكن مواجهة التحديات الاجتماعية إلا بمزيد من الاتقان و الإبداع، و من القيم المهمة في مجال الإنتاج إحسان العمل و إتقانه، فليس المطلوب مجرد أن يعمل الإنسان، بل أن يعمل عملًا حسنًا، و بعبارة أخرى: أن يحسن العمل و يؤديه بإحكام و اتقان. و أما علاقة الاحسان بالاستهلاك فتتحقق من خلال أن تقديم المال للمحتاجين و الفقراء يؤدي إلى تداول رأس المال، في حين لو بقي المال مكنوز عند القادر الغني _مثلًا_ لما استهلكه، و الاستهلاك هو إحدى حلقات الأنشطة و التنمية الاقتصادية التي تبدأ بالإنتاج، و تزداد بالتوزيع و الاستهلاك، , و يعتبر الاتقان مهارة داخلية تكسب الإنسان الاتزان و التفرد، و تمثل معيار سلامة الفرد و تكسبه صفة التغيير الحقيقي، و ترتبط بالرقابة الذاتية التي تجعله يؤدي عمله بإتقان في كل الحالات دون النظر إلى وجود رقيب، و هي ليست هدفًا سلوكيًا فحسب، بل هي ظاهرة حضارية تؤدي إلى رقي الجنس البشري.

العدل يضمن القدر الواجب من فعل الخير، أما الإحسان فهو الزيادة في فعل الخير و مقابلة الشر بأقل منه، و في جانب الأخلاق فالإحسان يتمثل بالأخلاق السامية و الفاضلة و الرشيدة؛ و من ثمرات الاحسان حفظ الموارد من الضياع و استغلالها الاستغلال الأمثل (الكفاءة)، و بلوغ الأهداف و التمكين (الفاعلية)، و سعة الرزق و تحقيق الرفاه الاجتماعي، و بناء المجتمع على أساس متين، لأن الإحسان إلى الفقراء يضمن انخراطهم في المجتمع و تحقيق أهدافه، و يبعدهم عن الفساد و الجريمة التي تضيع موارد المجتمع، و قد اشتمل التشريع الإسلامي على اسمى معاني المسؤولية تجاه المجتمع بأفراده و دعا إلى الإحسان إليهم بصفتهم أفرادًا، و دعا كذلك إلى الإحسان إليهم بصفتهم فئات اجتماعية فقد قال تعالى:” وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا” (النساء/ 36 ).

إن الإحسان دعوة إلى إيجاد الشخصية المثالية، و الحضارات لا تبني و لا تتقدم إلا بالإحسان، إحسان التخطيط، و إحسان التنفيذ، و إحسان التقدير، و على المستوى الفردي فالإحسان يدعم الفرد للتفاعل مع المجتمع، ليس بقصد اللياقة الاجتماعية المظهرية، بل بقصد مراعاة حق الإنسان و حق الأخوة في إحسان التعامل على قاعدة من الأمانة و الصدق و الإخلاص و المسؤولية الاجتماعية المتجذرة في وجدانه.

أما إيتاء ذي القربى فيعني الإحسان إلى ذي القربى و إعطاؤهم، فالعالم عبارة عن حلقات مقترنة ببعضها، و الفرد عندما يعطي الأقرباء الضعاف، و غيره يعطي أقرباءه الضعاف فسيكون هناك دوائر ملتحمة فلا يعوز أحد شيئًا، فالبعيد عنك قريب لغيرك، أي أنه يكون موجودًا في دائرة أخرى، و قد يكون قريبًا لعدة أشخاص فيكون في أكثر من دائرة؛ فيحدث التداخل و التكامل و تتوفر موارد العيش لكل الناس؛ و قد أمر الله بذلك لتحقيق الرفاه الاجتماعي، لأن الغني حين يعطي قريبه الفقير فإنه يأمن على نفسه من الحاجة في المستقبل. و يعتبر العطاء للأقارب أسلوبًا حضاريًا يعمل على نمو الحالة الاجتماعية المتوازنة و خلق التلاحم و القوة و السمو في واقع الجماعات ضمن المجتمع، و غاية التشريع الإسلامي بالتوجه إلى الأقارب أو (العائلة) هو أن العائلة تحقق الشعور بالانتماء فإن لم يتحقق، فسيبحث الفرد عن انتماء غير طبيعي، و ثانيًا فالعائلة تحفظ الأخلاق فلا يستطيع الفرد القيام بالأفعال المشينة لخجله، و أول الفساد هو تفكك العائلة، و ثالثًا فالعائلة توفر الاحتضان عند المصائب، و رابعًا القوة و التماسك لموجهة التحديات، و تعتبر العائلة مجتمعًا صغيرًا يحقق لأفراده كل ما سبق، فلا نستغرب توجه التشريع الإسلامي إلى بناءها بالشكل السليم.

مبادئ الخير تلك هي الأساس لتطور المجتمعات و صلاحها، فالعدل يضمن الاستقرار و الأمن، و الإحسان يحقق التراحم بين الناس و يضمن مبدأ الفاعلية و الكفاءة الاقتصادية، و إيتاء ذي القربى يحقق الكفاية الاقتصادية.

هرم المسؤولية الاجتماعية

بعد الامتثال للقوانين (العدل)، و الذي يمثل القاعدة الأساسية للهرم، يأتي السلوك الأخلاقي و الامتثال للمعايير الأخلاقية ( و تتمثل بالإحسان)، و يأتي بعد ذلك التأكيد على المسؤولية الاجتماعية و السلوك المسؤول تجاه الآخرين (قمة الهرم)، و المتمثل بـ(إيتاء ذي القربى) و يعتبر هذا السلوك الاجتماعي من اسمى السلوكيات و التي تحتم على الأفراد تقديم جزء من الذي حصلوا عليه للمجتمع (Giving Back to Society).

إن الالتزام بمبادئ المسؤولية الاجتماعية ينطوي على اتباع منهج استباقي للسلوك الأخلاقي و الذي لا يركز فقط على تعظيم المنفعة، بل تقديم الفائدة للمجتمع، و تتمثل قيم المسؤولية الاجتماعية تجنب انتهاك حقوق الغير، و دعم اشراك الأفراد في المجتمع، و النظر بعين العطف إلى الفئات الأقل حظًا في المجتمع؛ و الأثر الهام للمسؤولية الاجتماعية هو زيادة الآداء على مستوى المجتمع و على مستوى المؤسسات و الأفراد، لأن الاجتهاد في عمل الخير و تقديم العون للآخرين يساهم بشكل كبير في تخفيف الفقر في المجتمعات و التقليل من الإفساد في الأرض، و تحقيق التنمية، و تمكين الأشخاص غير القادرين.

و كما هو الحال مع السلوك الأخلاقي، فإن المسؤولية الاجتماعية تتضمن عمل الأشياء الصحيحة ( The Right things to Do)، و هناك العديد من المبررات للأفراد و الجماعات لتبني المسؤولية الاجتماعية، فعمل الخير سيرد بالضرورة لمن يعطي، و على مستوى المؤسسات فإن الشركات التي تقدم للمجتمع ستحصل على سمعة تمكنها من تحقيق أهدافها، و تعطيها ميزة عن الآخرين، و سيحرص الجميع على التعامل معها كجزء من رد الجميل، و لكي تصل الشركة إلى السلوك الملتزم تجاه المجتمع ينبغي لها الامتثال للقوانين و القواعد لكي تبني نفسها على أساس ثابت و ركيزة سليمة و تضمن سير الأمور بشكلها الصحيح و العادل، و تعكس ذلك في كل تعاملاتها. بعد ذلك عليها تبني المعايير الأخلاقية و الابتعاد عن الغش و الاحتيال و الفساد، و القيام بأعمالها بإتقان بما يحقق لها الكفاءة و الفاعلية. و إن استطاعت الشركات الوفاء بكل ذلك فإن ذلك يؤهلها للمساهمة في المجتمع و تقديم الخير له، الأمر الذي يساعد الشركة على التكامل و التداخل في المجتمع و يتعاون الجميع أفرادًا و مؤسسات لتحقيق الرفاه الاجتماعي و تتمكن الشركات من إيصال خدماتها و منتجاتها إلى شرائح أكبر في المجتمع.

بقلم: د. محمد العضايلة.

مراجعة: أسماء اليحيى

المصدر: https://arbcs.com/2015/10/19

مقال
لمشاهدة ملفات الدراسات، نأمل تسجيل الدخول, أو تسجيل عضوية جديدة
بواسطة:
الشبكة السعودية للمسؤولية الاجتماعية
إدارة الشبكة