الأربعاء 15 شوال 1445 الموافق أبريل 24, 2024
 

قراءة فى الملمح الإنسانى للرأسمالية التكنومعلوماتية

السبت, 15 أكتوبر, 2016

د. رامي عبود
في مطلع شهر ديسمبر الماضي (2015)، قرر مارك زوكربيرج، مؤسِّس فيسبوك، التبرع بـ99 % من نصيبه في شركة فيسبوك. ما يعني أن مبلغاً قدره 45 مليار دولار أمريكي سوف يُخصَّص للمؤسسة الإنسانية التي سينشئها، تكريماً لابنته التي ولدت قبل أسابيع من هذا الإعلان. ورغم أن مارك زوكربيرج قد بلغ بالكاد العقد الثالث من عمره (ولد 1984)، فإنه يعتبر من بين أغنياء العالم وسابع أغنى أمريكي حسب فوربس (إذ تبلغ ثروته الشخصية 45.4 مليار دولار أمريكي). والأهم من ذلك، أنه يعتبر من بين أكثر الشخصيات تأثيراً في العالم.
إن شركة فيسبوك، التي يرأسها زوكربيرج، تقوم على أكبر شبكة اجتماعية إنترنتية، تضم خمس سكان العالم تقريباً، بواقع 1.5 مليار مشترك تقريباً حول العالم، وهو ما يعادل أيضاً نصف مستخدمي الإنترنت في العالم تقريباً (والبالغ إجماليهم في نوفمبر من العام 2015 نحو 3.4 مليار مستخدم تقريباً، حسب Internet World Stats)، وبقيمة سوقية تبلغ 303 مليارات دولار أمريكي (حسب تقديرات العام 2015). لقد شهدت فيسبوك انطلاقتها المتواضعة في غرفة مبيت زوكربيرج في بيت الطلاب بجامعة هارفارد، فيما قبل أحد عشر عاماً فقط (إذ تأسست 2004). بيد أن عائداتها بلغت في العام 2014 (أي خلال عشرة أعوام فقط) 12.44 مليار دولار، لتتربع بذلك على عرش مواقع السوشيال ميديا. كما أنها تفوقت على كيانات عتيدة في مجال الميديا التقليدية، منها على سبيل المثال مجلة تايم الشهيرة Time Magazine ذات الثلاثة وتسعين عاماً (إذ تأسست 1923)، بينما بلغت عائداتها في العام ذاته 372.2 مليون دولار فقط مع الاستمرار في الانخفاض التدريجي.
حقيقة الأمر، هدفي هنا يتجاوز رصد الملامح الاقتصادية للتجربة الرأسمالية لزوكربيرج، رغم أهميتها الشديدة، لاسيما في ظل قيامها بإزاحة مؤسسات عملاقة في مجال الميديا الورقية (أي الصحافة المطبوعة) والأنالوجية (أي الراديو والتليفزيون)، بالتحالف مع غيرها من التجارب الإنترنتية الأخرى. بل، إن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات آخذة، تدريجياً، في إحداث تحولات راديكالية في أنماط الحياة والإنتاج حول العالم. والواقع، إنني أهدف فحص الطبيعة الإنسانية في هذه التجربة الرأسمالية الزوكربيرجية، خاصة، وفي الرأسماليين الجدد أو رأس المال التكنومعلوماتي (أي المرتبط بنظام الإنتاج في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات)، عامة. وهي الطبيعة التي تتطابق مع النزعة الإنسانية الكوزموبوليتية الآخذة في التشكُّل، والتي تتخذ صيغة كونية تزيح المحدِّدات التقليدية والمحلية التي عادةً ما تتعيَّن من خلالها المجتمعات (مثل القوميات واللغات ... إلخ)، بينما تُبقِي على أهمية الإنسان ومركزيته في الوجود. وإن مصدر هذه النزعة الجديدة هو حالة الاتصالية الفائقة التي نحيا خلالها الآن، وكذا فعل الإنترنت المستمر في تعزيز الروابط الفكرية والشعورية للجماعة العالمية.
في فيديو قصير بثه السيد زوكربيرج عبر صفحته الفيسبوكية عقب الإفصاح عن مبادرته الإنسانية، قال إن ولادة ابنته ماكسيما جعلته “يفكر في الأشياء التي يجب أن تتحول إلى أفضل مما هي عليه في العالم، وذلك من أجل مصلحة الجيل الذي تنتمي إليه ابنته”، في إشارة إلى الصحة والتعليم وخدمات الإنترنت والتنمية المستدامة وتمكين البشر ونشر المساواة. ثم يتساءل “هل الأجيال القادمة قادرة على التعلم في المستقبل واكتساب الخبرات بما يعادل مائة ضعف مما هو متوفر لنا اليوم؟” (لاحظ عبارة “مائة ضعف”). وفي الفيديو ذاته، وصفت زوجته بريسيلا تشان الأمر بأنه “استثمار في المستقبل”، وأنهم يريدون من خلال تفعيل هذه المبادرة التأكد من “أن المستقبل سوف يكون أفضل من اليوم”. والمثير في الأمر، أن المعنى الإنساني الذي تعكسه عبارات مارك وبريسيلا زوكربيرج اعتدنا استقاءه من خطاب المؤسسات الحقوقية والأُمميّة، بينما لم نعتد الأمر ذاته في الخطابات الصادرة عن المؤسسات الرأسمالية. أعني تحديداً الرأسمالية الكلاسيكية مما ينطبق عليها وصف “الروح الأنانية” التي “لا تشعر بالعاطفة وليس لها مبدأ سوى الكسب”، حسب مقولة توماس جيفرسون في العام 1809 (العبارة الأخيرة منقولة من كتاب المستقبل لآل جور). ورغم أن انتشار مفهوم المسئولية الاجتماعية للشركات corporate social responsibility، في الآونة الأخيرة، قد حفز كثيرا من المؤسسات الاقتصادية على تقديم المصلحة العامة والمبادرة المجتمعية الطوعية غير الهادفة للربح والمشاركة الذاتية غير المشروطة في التنمية، إلا أن مبادرته لتخصيص نسبة الـ 99 % من أرباحه في شركة فيسبوك قد تجاوزت التوقعات من حيث حجمها وأهدافها.
بيد أن، تصريحات زوكربيرج لم تكُفّ عنه أذى مفتشي الضمائر ولم تحمهِ من الاكتواء بلغط الشائعات. فقد خَلَّف الفيلم الأمريكي The Social Network (يحكي قصة نشوء فيسبوك، يظهر زوكربيرج على أنه خبيث ومتآمر، عرض في صالات السينما في العام 2010) صورة ذهنية سلبية عن زوكربيرج، لم تفتأ تمارس تأثيرها على طبيعة استقبال خبر المبادرة. فرغم أن زوكربيرج أدهش كثيرين حول العالم ممن أبدوا إعجابهم بمبادرته الإنسانية، ذهب البعض إلى الادعاء بأنه يسعى من خلالها إلى تهدف التهرب من الضرائب الأمريكية، وإيجاد وسيلة آمنة تضمن الثراء لأبنائه وأحفاده من بعده بعيداً عن مخاطر السوق.
على كلٍ، إن صورة زوكربيرج المتآمر التي تم الترويج لها سينمائياً تتناقض مع صورته التي يمكن أن نستدل عليها من مظهره المتواضع، والتزامه الأسري، وبساطة حديثه، وتعليقاته التي يجيب خلالها مباشرة على أسئلة متابعيه، ومقاطع الفيديو التي يبثها أونلاين من وقت لآخر متحدثاً عن شئون شخصية واقتصادية، ومكتبه الذي بلا حوائط تحجبه عن موظفيه داخل شركة فيسبوك، ومشروعاته الطموحة لدعم المجتمع العالمي، وتعهده للأمم المتحدة بتوفير الإنترنت لمخيمات اللاجئين، وتوصيل المناطق النائية بالإنترنت المجاني ... إلخ. وهي الصورة التي تحمل ملامح، ظاهرية وغير ظاهرية، ذات صبغة إنسانية مما قد لا نجدها متحققةً لدى الرأسماليين الكلاسيكيين، فيما قبل ظهور اقتصاد المعرفة. بينما نلحظ تحققها بوتيرة متفاوتة لدى الرأسماليين التكنولوجيين الجدد.
ومن دون استنفاذ مزيد من الطاقة في تحليل النوايا والنوايا المضادة، فإن ما يغلق الباب أمام عاصفة الشكوك المصاحبة لمبادرة زوكربيرج هو أن القانون الأمريكي ذاته يجِيز تحويل أرباحه خالية من الضرائب، إلى العمل الإنساني. كما أن تلك الأموال سوف تنفق تحت سمع وبصر التشريعات الأمريكية، والتي لا تتهاون في حالة مخالفتها. بيد أن، ما يسترعي انتباهنا أكثر من غيره هو أن أهداف الإنفاق تتجاوز حدود المجتمع الأمريكي المحلي إلى حيِّز الجماعة العالمية (سأعود إلى ذلك لاحقاً).
في مقام آخر، يسعى زوكربيرج عبر مبادرة تدعى internet.org بالاشتراك مع مختبر فيسبوك للاتصالات وخبراء في الاتصال والفضاء من عدة مؤسسات عالمية من بينها “ناسا”، إلى ابتكار تكنولوجيات جديدة بغرض توصيل جميع سكان العالم بالإنترنت المجاني، بوصفه حقا أساسيا في عالمنا المعاصر، ولاسيما سكان المناطق النائية التي يصعب مد البنية التحتية الإنترنتية إليها. إن هذا المشروع العالمي الطموح للغاية يهدف توفير الإنترنت، خلال سنوات قليلة، لنحو أربعة مليارات نسمة ممن يعيشون خارج كوكب الإنترنت. وإن من بين هذه التكنولوجيات المبتكرة أقمارا صناعية، وطائرات بدون طيار تحلِّق بالطاقة الشمسية لتوصيل السكان في الأرض بإنترنت عالي السرعة باستخدام أشعة الليزر. وقد تم فعلياً توصيل بعض المناطق حول العالم بالإنترنت، منها الفلبين وباراجواي حيث تمكَّن ثلاثة ملايين فرد للمرة الأولى من دخول عالم الإنترنت. إن نشر الإنترنت بين سكان العالم يعني تحسين طرق الوصول إلى المعرفة، ومن ثم تحسين نمط الحياة، وتطوير وسائل الإنتاج، وتعزيز طرق التفكير العقلاني، وصناعة تصورات أكثر نضجاً عن الذات والوجود والآخر. إن زوكربيرج، في هذه الحالة، يسخِّر التكنولوجيات الجديدة لخدمة الإنسان ذاته وتحقيق الانوجاد في عالم أفضل للجميع. ما يأتي على النقيض من الرأسمالية الصناعية، والتي عادة ما تسعى إلى تسخير التكنولوجيا لمضاعفة رأس المال، عبر تسليع كل شيء وتحفيز الاستهلاك على حساب الإنسان ذاته.
إن مارك زوكربيرج ليس عبقرياً بالمعنى الآينشتايني (أي العلمي نسبة إلى آينشتاين) ولا حتى بالمعنى الجوبزي (أي التجاري نسبة إلى ستيف جوبز مؤسس آبل). وإنما تصادف أن التقى ذكاؤه الفطري وشغفه بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، من جانب، مع اللحظة التاريخية الدقيقة التي يتشكل فيها عالم جديد وينبثق منها اقتصاد تكنومعلوماتي جديد قائم على الإبداع والابتكار، من جانب آخر.
بيد أن، مارك زوكربيرج ذا الثلاثة عقود “فقط” يمنح العالم نموذجاً إنسانياً فريداً بوضع هذه النسبة الكبيرة من أمواله الخاصة تحت تصرف المجتمع الإنساني، لاسيما بالمقارنة مع آخرين مثل “بل جيتس الذي أنشأ مؤسسته للعمل الإنساني في سن الـ 45” (منقول عن رويترز). وإن هذا الأمر، تحديداً، يحمل مؤشرات دالة بخصوص الجيل الجديد من رواد الرأسمالية التكنولوجية الناشئة، من حيث النضج الفكري المبكِّر واختلاف المزاجية الأخلاقية والاجتماعية قياساً برواد الرأسمالية الصناعية، والمعروفة بصدامها التاريخي مع البروليتاريا ونزوعها المادي وتهافتها على الربح ونشرها الرغبة الاستهلاكية المُلِحَّة في المجتمع الإنساني. لقد ظهرت الرأسمالية الصناعية كبديل عصري للنظام الإقطاعي القروسطي، قبل نحو قرن ونصف، إلا أنها لم تتمكن من الانسلاخ مطلقاً من جِلد النظام الإقطاعي، حيث حملَت بعضاً من روحه المستبدة وشراهته المتفاقمة تجاه المال وتصوراته اللامتصالحة بشأن الآخر. ورغم أن الرأسمالية التكنولوجية، والتي تتمثّلها التجربة الرأسمالية الزوكربرجية، لا تنفك تدافع عن مصالحها هي الأخرى وتكَشِّر عن أنيابها وقت اللزوم، فإنها أكثر التزاماً بالمسئولية الاجتماعية وفق المنظور الكوزموبوليتي. كما أنها تخلق مساراً جديداً للعمل الإنساني العابر للقوميات والثقافات والهويات واللغات والإثنيات والأديان.

المصدر: http://aitmag.ahram.org.eg/

مقال
لمشاهدة ملفات الدراسات، نأمل تسجيل الدخول, أو تسجيل عضوية جديدة
بواسطة:
الشبكة السعودية للمسؤولية الاجتماعية
إدارة الشبكة