الجمعة 10 شوال 1445 الموافق أبريل 19, 2024
 

المصلحة العامّة والعولمة والقطاع الخاص

الخميس, 8 سبتمبر, 2016

مهمّة الدولة الأساسيّة هي إدارة المصالح الخاصّة لأفرادها من أجل «المصلحة العامّة». والحكم الرشيد يتميّز ببناء توازن متين بين ضرورة تحفيز النشاط الاقتصادي والاستثمار وريادة الأعمال وبين صيانة الفرديّة والحقوق العامّة لكافّة المواطنين دون هيمنة أصحاب المصالح، خاصّة الكبرى منها، على مؤسّسات الصالح العام.

هذه المسائل تتخطّى في منطقها قضايا فساد الحكم ومكافحته، حيث إنّها ليست ذات طبيعة أخلاقيّة أوّلاً وأساساً، بل هي في صلب الاقتصاد السياسيّ، أي مضمون العلاقة بين النموّ والتنمية وبين نظام الحكم والعادات وتوزيع الثروة. لكنّ إدارة الشأن العام أصبحت أكثر تعقيداً منذ الدخول في عصر العولمة. إذ ظهرت شركات متعدّدة الجنسيّات هي التي تدفع النموّ في قطاعات اقتصاديّة رائدة ولأنماط جديدة من الاستهلاك.

هذه الشركات تمثّل مصالح خاصّة ضخمة، تتخطّى أرقام أعمالها ميزانيّات كثيرٍ من الدول، وتدافع عنها الدول التي تتمركز فيها من خلال اتفاقيات التجارة الحرّة. ما يضيف إلى قضيّة «المصلحة العامّة» وبناء التوازنات بعداً تفاعُليّاً محليّاً-خارجيّاً لا يُمكن التغاضي عنه، علماً أنّ إدارة الدولة لا تملك سلطاناً كبيراً على المؤسّسات المسجّلة في دولٍ خارجيّة.

لقد تغيّرت طروحات التنمية مع هذه العولمة. فأهداف التنمية المستدامة لما بعد 2015 تعتبر القطاع الخاصّ شريكاً أساسيّاً في دفع وتمويل التنمية، في آليّةٍ تذهب أبعد من «الشراكة بين القطاع العام والخاصّ» (Public-Private partnership)، التي انطلقت أصلاً من الإقرار بقلّة موارد الدول النامية وخبراتها الإداريّة وبتقلّص المساعدات بين الدول، إلى تحفيز «الشراكات الدوليّة» في هذا المجال (الهدف 17). مع تساؤلٍ كبير حول كيفيّة الاستفادة من هذه الشراكات لتنمية «المصلحة العامّة»؟

بالتوازي، تغيّرت أيضاً أنماط العمل السياسيّ. بحيث تشابكت مصالح القوى السياسيّة أكثر مع المصالح الخاصّة، الداخليّة والخارجيّة، وأصبح تمويل القوى السياسيّة وولوجها إلى وسائل الإعلام - وأغلبها خاصّة - شرطاً شبه ضروريّ لوصولها إلى السلطة السياسيّة. وخلق ذلك التباساً حول ماهيّة الإدارة التي تقوم - أو ستقوم - بها. لدرجة أنّ آليّات هيمنة على السلطة أضحت هي القاعدة في كثيرٍ من الدول من خلال الهيمنة على قطاعات اقتصاديّة ريعيّة تسمح إيراداتها «بإعادة إنتاج السلطة» واستمراريّتها عبر شراء الولاءات، حتّى في الأنظمة التي تقوم على انتخابات«حرّة».

أمام هذه التطوّرات، لا تملك المجتمعات لتعريف«الشأن العام»و«المصلحة العامّة» والدفاع عنهما أُسساً تتناسب مع العصر. هناك دساتير وهناك الشرعة الدوليّة لحقوق الإنسان. وهناك أيضاً الشرعة الدوليّة للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، كما المبادئ الأساسيّة لمنظّمة العمل الدوليّة، الأكثر تفصيلاً.

معظم الدساتير تشير إلى المصلحة العامّة كقاعدة لعمل مؤسّسات الدولة، ولكن في أغلب الأحيان ضمنيّاً، مع صيغة مفاهيم جلّ ما تكون محصورة بمفهوم «المنفعة العامّة» التي يُمكن أن يتمّ بموجبها نزع «الملكيّة الخاصّة» مقابل تعويض عادل، ودون تعريفٍ دقيق لهذه «المنفعة العامّة». خاصّة وأنّ مفاهيم «المنفعة العامّة» و«المنفعة المشتركة» تخضع لنقاشات وتباينات فلسفيّة وسياسيّة واقتصاديّة. كذلك تشير الدساتير إلى«الخدمات العامّة» دون توضيح ماهيّتها وخصائصها وقواعدها. مثلاً أن تقدّم بصورة مستمرّة دون انقطاع وأن تؤمّن بعدالة وبكلف مقبولة من الجميع، وأن تكون قابلة للتحوّل مع تحوّلات «المصلحة العامّة». هكذا لا يُمكِن اليوم سوى اعتبار الكهرباء والهاتف ومياه الشرب والصرف الصحيّ وإزالة ومعالجة النفايات «خدمات عامّة». لكن هل يجب اعتبار الإنترنت أو الضمان الاجتماعيّ أيضاً «خدمة عامّة»؟ وبأيّة معايير لجميع هذه الخدمات؟ وكيف يتمّ فرض احترام قواعدها على شركات أجنبيّة غالباً ما تخرج العقود الموقّعة معها عن قوانين البلد المعنيّ؟ خاصّة وأنّ معظم الدساتير صامتة عن المواضيع المتعلّقة بالعولمة وبالتعاقد مع الدول أو الشركات الخارجيّة. فقط قد نجد بعض المواد عن الآليّات التي يجب إجراؤها لعقد اتفاقيات دوليّة أو لمنح تراخيص لاستثمار موارد طبيعيّة، أي نوع خاصّ من «المنافع المشتركة»، غالباً ما يغيب عنها تحديد أسس حقوق وواجبات المتعاقدين الخارجيّين تجاه «المصلحة العامّة».

على صعيدٍ آخر، يُعرِّف الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان لعام 1948 بعض «الخدمات العامّة» على أنّها حقوق إنسان، لا يمكن التفريط بها، ومنها الصحّة والتعليم «المواد 22 إلى 26». ومنها انطلق مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة سنة 2008 كي يفرض مبدأ المسؤوليّة في احترام حقوق الإنسان على الشركات عبر الوطنيّة وغيرها من مؤسسّات الأعمال، في البلد التي تمّ تسجيل الشركة فيه كما في بقيّة البلدان التي تعمل معها. ما أعطى دفعاً كبيراً لموضوع «المسؤوليّة الاجتماعيّة للشركات» ووضعه في إطارٍ أعلى من الدساتير القائمة.

تبع ذلك إقرار «مبادئ الأمم المتحدة التوجيهيّة بشأن الأعمال التجاريّة وحقوق الإنسان» في يونيو 2011، التي تخلق التزامات محدّدة على الدول، كما على الشركات في فرض احترام حقوق الإنسان في الأعمال التجاريّة ضمن أراضي الدولة وخارجها، مع تركيزٍ خاصّ على الأعمال في مناطق النزاع حيث احتمال حدوث الخروقات أكبر.

إلاّ أنّ احترام هذه المبادئ بقي مجالاً لتفسيرات شديدة التباين، رغم وضع آليّة أمميّة لقياس مدى الالتزام بتنفيذ الالتزامات. لذا ظهرت في سبتمبر 2011 «مبادئ ماستريخت» التي عنيت بشكلٍ خاصّ بالالتزامات الخارجيّة في مجال الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة.

لكن لم يتمّ التوصّل حتّى اليوم إلى صكٍّ دوليّ تفصيليّ مُلزِم قانونيّاً. ليس إطلاق النقاش العام حول مفاهيم «المصلحة العاّمة» ترفاً فكريّاً، خاصّة في البلدان العربيّة حيث تحتدم الأزمات. وهي أصلاً أزمات تأسّست من جرّاء تطوّرات اقتصاديّة لم تأتِ بالتنمية والرخاء، وبصراعات بين مصالح عابرة للدول بما فيها العربيّة منها، وبإشكاليّات أنظمة حكم ورؤية لدور الدولة والإدارة. أي أنّها باختصار أزمة «عقد اجتماعيّ»، تعريف «الصالح العام» فيها بنفس أهميّة المساواة في المواطنة أو صون الحريّات.

لم يخفَ ذلك على واضعي الدستور التونسي الجديد، الذي جاء نصّه متقدّماً في هذا المجال. إذ ذُكِرَ الصالح العام مرّتين، خاصّة لتحديد أنّ «الإدارة العموميّة في خدمة المواطن والصالح العام»، مع خصائص بارزة للمرافق العامّة. إلاّ أنّه حتّى في هذه الحالة، تبقى أمور جوهريّة دون قواعد أساسيّة. لا على صعيد المسؤوليّة الاجتماعيّة للشركات، ولا الاتفاقات العابرة للدول التي لا تخصّ الثروات الطبيعيّة «في هذه الحالة، تحتاج هذه الاتفاقيات لموافقة البرلمان»، ولا منع الاحتكار الذي يشكّل أساساً للريع، ولا العلاقة بين العمل السياسيّ والإعلام والمال «حيث لا تطالب الأحزاب السياسيّة سوى بالشفافيّة».

باختصار، لماذا تشمل «العقود الاجتماعيّة» والدساتير الأسرة والأحزاب السياسيّة والنقابات ومنظّمات المجتمع المدنيّ والمؤسسّات الدينيّة إلخ، وتضع لها حقوقاً وواجبات؟ في حين تغفل الحديث عن الشركات الخاصّة كشخصيّات اعتباريّة اجتماعيّة، لها أيضاً حقوق وواجبات، يجب تحديد الفاصل بين مصلحتها و«المصلحة العامّة».
سمير العيطة *
* رئيس منتدى الاقتصاديين العرب، ورئيس تحرير سابق لـ لموند دبلوماتيك «النسخة العربية».
http://www.albayan.ae/knowledge/2016-09-07-1.2710685

خبر
لمشاهدة ملفات الدراسات، نأمل تسجيل الدخول, أو تسجيل عضوية جديدة
بواسطة:
باحث ومهتم بالمسؤولية الاجتماعية
عضو منذ: 21/08/2016
عدد المشاركات: 160