الجمعة 19 رمضان 1445 الموافق مارس 29, 2024
 

المسئولية الاجتماعية لأساتذة الجامعات

الخميس, 27 يوليو, 2017

د محمد تركي بني سلامة

لا شك أن هناك علاقة وطيدة بين العلم والمجتمع، وتؤثر هذه العلاقة في اتجاهات واهتمامات ومن ثم جهود وسلوكيات ودراسات وأبحاث العلماء ولا سيما أساتذة الجامعات والعاملين في مراكز الأبحاث والدراسات. وفي القرن الحادي والعشرون أضيف إلى هذه العلاقة متغير جديد وهو التكنولوجيا والتي بدورها أسهمت في إحداث تغيرات جذرية في العلاقات الإنسانية وأنماط التفكير والتفاعل على مستوى العالم في العقود الأخيرة الماضية، وأبرز ملامح هذه التغيرات ما يلي:
1- العولمة وما نتج عنها من تطورات أسهمت في سرعة ويسر وسهولة الاتصال وانتقال الأفراد والأفكار والسلع والخدمات بين المجتمعات.
2- الثورة الديمقراطية في العالم وسيادة قيم المساواة والعدالة والمشاركة السياسية واحترام حقوق الإنسان.
3- تنامي دور وأهمية القطاع الخاص في كافة مجالات النشاط الإنساني وتراجع دور الدولة في عملية التنمية الإنسانية بأبعادها المختلفة.
4- تداخل العلوم والمعارف الطبيعية مع الإنسانية والتطبيقية مع النظرية أو ما بات يعرف في أدبيات المعرفة Inter-disciplinary studies.
أن التطور المعرفي الهائل الذي شهده العالم في الخمسين سنة الماضية وما ترتب عليه من إنجازات وابتكارات في شتى فروع المعرفة لم يأتِ صدفة أو من فراغ، ولا شك أنه كان لإسهامات النخب المثقفة والباحثين وأساتذة الجامعات دوراً بارزاً في هذه النهضة العلمية التي نمت بذرتها الأولى في تربة وأجواء أوروبا الغربية ثم انتقلت إلى عدد من دول العالم ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية. فالتقدم في أي فرع من فروع المعرفة كان ينعكس إيجابياً على المجتمع ويسهم في إحداث نقلة نوعية في اتجاهات وقيم وسلوكيات أفراده، ويمكن القول أن التقدم العلمي والتكنولوجي والحضاري الذي وصلت إليه دول الشمال كان ثمرة جهود النخبة المثقفة من قادة وفلاسفة وخبراء وأساتذة جامعات وباحثين وغيرهم من أبناء تلك المجتمعات. بينما بقيت دول الجنوب غارفة في الفقر والجهل والتخلف فضلاً عن معاناتها شبه المستمرة من الحروب وعدم الاستقرار والكوارث والنكبات. ولم تفلح جهود القادة والمفكرين وجهود العاملين في مؤسسات التعليم المختلفة في ردم الفجوة الهائلة بينها وبين دول الشمال. إن هذا التحدي الهائل الذي تواجهه دول الجنوب يفرض عليها إعادة النظر في كثير من الرؤى والسياسات والسلوكيات إذا ما أرادت دفع عجلة التنمية فيها وتحقيق مستوى متقدم من الرخاء لشعوبها. ولا شك أن إعادة النظر في الكثير من السياسات والممارسات التعليمية هي حجر الزاوية في هذا المشروع التنموي النهضوي الطموح، وبالتالي فإن جزء كبير من المسؤولية يقع على النخب المثقفة أساتذة الجامعات باعتبار الجامعات مصانع العقول وحاضنات الإبداع ومنابر التميّز. إن المسؤولية الاجتماعية لأساتذة الجامعات في هذا المجال ذات أبعاد ومضامين أخلاقية اجتماعية وطنية وإنسانية وتقتضي من كل فرد منهم القيام بواجباته على أكمل وجه في التدريس والبحث العلمي وخدمة وتنمية المجتمع المحلي.
إن وظيفة التدريس هي أسهل الواجبات أو المهام التي يقوم بها أستاذ الجامعة ولذا فإننا سوف نتوقف عند الواجبات أو المهام الأخرى الأكثر صعوبة وهي أن يكون أستاذ الجامعة أيضاً باحث Scholar منتج للإبداع والمعارف العلمية وناشط أو فاعل Activist في المجتمع باعتباره أحد أهم عناصر الإصلاح وقوى التغيير والتحديث في المجتمع.
وعند قيام أستاذ الجامعة بوظيفته الأولى كباحث فلا بد من أن يلعب البحث العلمي دوراً أساسياً في حل مشاكل المجتمع وتلبية احتياجات وتطلعات أفراده، أما إذا بقي البحث العلمي محصوراً في إطار الجامعة ويستخدم لغايات شخصية بحتة مثل الترقية والحصول على مكاسب شخصية أو مادية مثلما هو واقع حال البحث العلمي في كثير من دول العالم الثالث ومنها الأردن فإن أستاذ الجامعة في هذه الأحوال يتحول من باحث منتج للمعرفة العلمية ذات الفائدة للمجتمع إلى مجرد موظف غريب عن المجتمع قاصر عن الاستجابة للتحديات التي تواجهه وعاجز عن إحداث أي إصلاح أو تغيير في الواقع. وبلغة أخرى يمكن القول أن أستاذ الجامعة عندما يعجز عن تجاوز ذاته فإنه سوف ينتج بحث علمي مفسد أو معرفة زائفة ومن هنا تنبع أهمية وضرورة مشاركة أفراد المجتمع في تحديد أهداف وأغراض الدراسات والأبحاث، فمشاركة المواطنين الفاعلين منهم مثل أعضاء مؤسسات المجتمع المدني في تحديد أولويات الدراسات والأبحاث تنطوي على العديد من المكاسب والإيجابيات للباحث والمجتمع على حد سواء مثل: تعزيز قيم المشاركة والتفاعل والحوار والإحساس بالمسؤولية والشعور بالانتماء وإن أبرز أسباب العنف والتطرف في كثير من دول العالم الثالث يعود لانعدام أو ضعف المشاركة والشعور بالاغتراب الاجتماعي والحرمان والتهميش. ومن هنا فإن إشراك المواطنين في عملية البحث العلمي سوف يعمّق شعورهم بالانتماء إلى المجتمع ويجسّد قيم المواطنة في الدولة.
وكذلك لا بد من إطلاع المواطنين على نتائج الدراسات والأبحاث الأمر الذي يسهم في زيادة الوعي بنتائج الدراسات وكذلك زيادة اهتمام ومشاركة المواطنين بمثل هذه الأبحاث والدراسات والإقبال عليها بحماس. إن الشراكة بين الباحث والمجتمع المحلي توفر للباحث فرصة للإطلاع على رؤى وأفكار وخبرات متنوعة وعلى الباحث المنتمي للمجتمع أو الذي لديه الشعور بالمسؤولية الاجتماعية أن يدرك حقيقة أن كثير من المفكرين وأصحاب الرؤى والتجارب الميدانية هم خارج أسوار الجامعات وبالتالي فإن طلب المساعدة منهم أو إتاحة الفرصة لهم للمشاركة هو تعزيز لمبدأ الضمير المجتمعي أو المسؤولية الاجتماعية، وهذا هو اتجاه جديد في حقل البحث العلمي وأحد نتائج ما سمي سابقاً بـ Interdisciplinary.
إن منطق أن رجل الشارع غير مؤهل للمشاركة وأن الباحث هو وحده الذي يحتكر الحقيقة أو المعرفة هو منطق من الماضي البعيد الذي تجاوزته التجارب الإنسانية في المجتمع المعاصر. لا بل أن الشراكة بين المجتمع والباحث تتوج في إشراك المجتمع في تقييم الكثير من الدراسات والأبحاث الأمر الذي يسهم في زيادة الدقة والموضوعية ورفع سوية النتائج التي يتم التوصل إليها. وعلى الباحث أن يعرض نتائج البحث العلمي بشفافية وحياد وعدم الرضوخ للضغوط التي تمارس من قبل السلطة لتقديم آراء ونتائج تخدم سياسات السلطة. إن الباحث الذي يصبح ابناً مطيعاً للسلطة ومخلصاً في تنفيذ شروطها ورغباتها فإنه يتماشى مع السلطة ويخرج من نطاق المجتمع وبالتالي فإن المجتمع سوف ينظر إليه بعين الشك والريبة وعدم الاحترام ويدرك أن أفكار هذا الباحث ملوثة ودراساته مشكوك في صحتها وموضوعيتها. فعلى سبيل المثال إن قيام باحث تحت ضغط السلطة بإجراء دراسات والتوصل إلى نتائج تفضي إلى التقليل من الأخطار الناجمة عن ارتفاع درجة حرارة الأرض والأخطار البيئية المترتبة عليها فإن مثل هذه الدراسات لن يقبلها المجتمع وبطبيعة الحال لن تسهم في حل مشكلة الغذاء العالمي أو التخفيف من الآثار السلبية لارتفاع درجة حرارة الأرض.
إن نوعية وصدق المعرفة العلمية المنتجة التي تؤثر في السياسات المتبعة في مجالات الصحة والمياه والغذاء والبيئة والتعليم لا تقل أهمية عن المعرفة المنتجة في مجالات الديمقراطية والحكم الرشيد وحقوق الإنسان وتمكين المرأة. ولذا فإن الباحث الجاد الملتزم بأخلاقيات البحث العلمي يدرك تماماً أنه لا مجال للمساومة أو التلاعب بنتائج البحث العلمي. وبطبيعة الحال لا يستطيع الباحث القيام بهذا الدور في ظل مناخ من الاستبداد أو الخوف وبالتالي فإن حرية الباحث وعدم ممارسة أي ضغوط أو إغراءات هي حجر الأساس في إجراء بحث علمي رصين.
إن الوظيفة الأكثر صعوبة بالنسبة للأستاذ الجامعي هي أن يكون ناشط Activist في المجتمع، وفي هذا الصدد يقول الفيلسوف الفرنسي الشهير جون بول سارتر أن مسؤولية المثقف في الفعل السياسي اليومي والتزامه السياسي أسمى من الأدب والمعرفة والإبداع. الفعل السياسي اليومي هو الجمع بين الفكر والعمل أو النظرية والممارسة ذلك أن الممارسة العملية والتجربة اليومية الحية هي المقياس الحقيقي لصحة النظرية. وعندما يمارس أستاذ الجامعة وظيفته كناشط في المجتمع فإن عليه أن يحدد موقفه بوضوح: فإما أن يختار أن يكون مع الحفاظ على الوضع القائم وتبريره والدفاع عنه والوقوف في وجه محاولات التغيير أو أن يرفض الأمر الواقع وبالتالي يكون من أنصار ودعاة الإصلاح والتغيير نحو الأفضل يمتلك الإرادة والوعي والاستعداد للتضحية من أجل التغيير وخلق واقع جديد.
وعلى أستاذ الجامعة عند ممارسة دورة كناشط أن يختار جمهوره بدقة وعناية، فهو بحاجة لجمهور من المهتمين بالشأن العام، جمهور يتلهف لمعرفة الحقيقة وكشف الأكاذيب فيتفاعل مع الناشط فيتحدث معه ولا يتحدث إليه To speak with not to، وعلى الناشط أن يبذل الجهد اللازم لتهيئة الجمهور لقبول آرائه وأفكاره وعليه أن يتجاوز سخف الرأي القائل أن الجمهور لا يمكن أن يقبل الأفكار الجادة والعميقة. إن الناشط المخلص لمبادئه ومثله هو الذي تكو أبحاثه أو كتاباته words وأفعاله ونشاطاته actions متطابقة هو الإنسان المنتمي الذي يصنع الأحداث ويمسك بدقة التاريخ فكلماته تحرك العالم من حوله وأفكاره تولد فعل ورد فعل ونشاطاته وأفعاله مبعث أنصار وأتباع ومريدين وشهداء. والناشط الملتزم لا يحبط إذا لم يحقق النتائج المرجوة ذلك أن عليه القيام بدوره ومواصلة رسالته والإيمان بأن القوى والعقبات التي تعترض طريقه هي زائلة في نهاية المطاف لأنها قوى وهمية وحججها غير منطقية، ولا عذر للأستاذ الجامعي الناشط في خدمة المجتمع والدفاع عن همومه وقضاياه في سلوكه طريق آخر لأنه إن فعل فإنما يخون رسالته ويحتقر ذاته ويخيب آمال المجتمع فيه.
إن الجمع بين التدريس والبحث العلمي والالتزام السياسي ليس بالأمر المستحيل، إن استخدام المنهج العلمي في حل المشاكل الواقعية وخلق ظروف أكثر ملائمة لدفع المجتمع للتقدم إلى الأمام هي أسمى غايات البحث العلمي وهذا لا يتحقق دون إقامة علاقة وطيدة بين الباحث والمجتمع، ولما كان التنظيم قوة فإن أفضل المجالات التي يمكن للناشط أن يمارس دوره من خلالها هي الحركات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني وعلى رأسها الأحزاب السياسية. ولا شك أن مسؤولية ودور الناشط في المجتمع الحر أو الديمقراطي تفوق مسؤولية غيره في المجتمع الاستبدادي حيث يدفع الناشط ثمن آرائه أو صدقه أو أمانته العلمية. فالحرية هي المناخ الأمثل للإبداع والابتكار وتفجير الطاقات المكبوتة سواء لدى الباحث أو الناشط أو المجتمع.
وفي الختام يمكن القول أن المبادرة إلى وضع أسس جديدة للبحث العلمي وللعلاقة بين الجامعة والمجتمع في العالم العربي هي خطوة صحيحة في الاتجاه الصحيح ذلك أن الاستمرار في تقديم الدراسات والأبحاث الكمية بمعزل عن المجتمع ودون تقديم أي منفعة له لا تنسجم مع دور وواجب ومسؤولية أستاذ الجامعة تجاه المجتمع. إن استمرار نكوص وانعزال أستاذ الجامعة عن المجتمع المحلي وإنتاج أبحاث علمية لغايات وظيفية لا يختلف عن الإغراء المادي والثراء والشهرة التي يحققها البعض بطرق رخيصة تنم عن احتقار للذات وخواء فكري وتخاذل وخداع للذات وللآخر. إن مثل هذه المواقف يمكن أن نجدها في عالم السينما والمسرح والتلفزيون وليس في عالم الثقافة والفكر والسياسة. إن أخذ هذه الأفكار على مجمل الجد يقتضي الالتفات والتأمل إلى هذه المبادرة واستلهام ما جاء فيها لوضع أسس ومبادئ جديدة لتقييم واقع البحث العلمي ودور ومسؤولية أساتذة الجامعات تجاه المجتمع المحلي.
فمصلحة الجميع أستاذ الجامعة والمجتمع والدولة تقتضي إزالة الحواجز بينهم في المقام الأول وأن تكون العلاقة بين العلم والمجتمع لمصلحة المجتمع دائماً.

نقلا عن http://www.talabanews.net/ar

مقال
لمشاهدة ملفات الدراسات، نأمل تسجيل الدخول, أو تسجيل عضوية جديدة
بواسطة:
الشبكة السعودية للمسؤولية الاجتماعية
إدارة الشبكة